الحديث عن أزمة النظام الدولي والعالمي والحاجة لتغييره ليس بالأمر المُستجد فهو حديث مُصاحِب للنظام الدولي منذ تأسيسه وخصوصاً بعد تفكك الاتحاد السوفيتي ونهاية القطبية الثنائية، إلّا أنّ الجديد في الأمر أنّ الحديث عن التغيير هذه المرة لا يتعلق باختلالات في موازين القوى العسكرية أو بحروب بين الدول العظمى كما جرت العادة بل بخطر من خارج النظام يهدد كلّ البشرية، إنّه فيروس أو وباء (الكورونا) غير المرئي والمجهول الأصل والمصدر حتى الآن، فهل بالفعل أنّ الكورونا وتداعياته سيغيرا النظام الدولي؟ أم أنّ في الموضوع مبالغة، ليس من حيث التداعيات العالمية للفيروس بل من حيث أنّ ما كان يُسمّى (النظام الدولي) كان آيلا للسقوط وأقرب إلى الوهم وكلّ ما فعله (الكورونا) أنّه كشف هذا الوهم ومحدودية النظام في النظام الدولي، وأنّ هذا الأخير ليس بتلك الدرجة من التماسك والترابط التي كان يتصوّرها الناس؟.
فعبر التاريخ كانت مبالغة في الحديث عن النظام الدولي والعالمي والمجتمع الدولي وكان يحدث خلط ما بين المضمون القيمي والأخلاقي والقانوني المأمول من الفكرة التي ظهرت لأوّل مرة في اليونان القديمة مع المدرسة الرواقية وفيلسوفها زينون (264-366 ق.م) عندما دعا إلى نوع من الأخوّة أو الدولة العالمية (الكوزموبوليتية) من جانب، وواقع تمظهرها أو تجسيدها عملياً ما بعد معاهدة وستفاليا من جانب آخر.
النظام العالمي، بما هو إطار مؤسساتي سياسي وقانوني واقتصادي وتشريعي يتطلع لاستيعاب وتنظيم كلّ أشكال الفعل والتفاعل بين الدول والكيانات السياسية الأُخرى بما يمنع العودة لشريعة الغاب والفوضى أو الحدّ منها، لم يكن عبر تاريخ وجوده ومنذ تشكُلِه الأوّل عملياً بعد حرب الثلاثين سنة في معاهدة وستفاليا 1648 ثمّ إعادة تشكله بعد الحرب العالمية الأُولى ثمّ الثانية، لم يكن نظاماً جامداً أو منسجماً تماماً مع دلالات مصطلح النظام بما يعنيه من التزام بالقوانين والتشريعات وبمتطلبات الاستقرار والسلام العالمي، بل كان يتشكّل ويتغير بفعل الحروب والصراعات الكبرى، حتى في أزهى الفترات التي كان يجري الحديث فيها عن السلام والاستقرار كانت الصراعات والحروب، اقتصادية ونفسية وإعلامية وأيديولوجية وحتى عسكرية مباشرة أو بالوكالة بين أقطاب النظام الدولي لا تتوقف، بالإضافة إلى الحروب الأهلية، حيث كانت وما زالت المصالح أقوى وأهم من المبادئ.
خلال كلّ مراحل التطوّر/ التحوّل في النظام الدولي والعالمي كان التغيير المؤدِّي لقيام نظام دولي جديد يعود لعاملين:
1- الاكتشافات العلمية وخصوصاً الصناعية والمعلوماتية وظهور الاقتصاديات الكبرى والحاجة للأسواق والمواد الخام وسهولة الاتصال والمواصلات، كلّ ذلك أدَّى لتعزيز الترابط والتعاون بين الدول وكسر قيود السيادة المطلقة إلى درجة الحديث عن العولمة أو تحوّل العالم إلى قرية صغيرة.
2- التحوّلات في ميزان القوى والصراع على المصالح والحدود كان يؤدِّي لاندلاع حروب عالمية تُدمِر مدن ومؤسسات وجيوش وبنية تحتية وتؤدِّي لتأسيس نظام دولي جديد يتجاوز النظام السابق، حتى الحديث عن نظام دولي جديد بعد انهيار الاتحاد السوفيتي لم يشذ عن هذه القاعدة فما جرى داخل الاتحاد السوفيتي كان بمثابة هزيمة أخلت بموازين القوى حتى بدون حرب عسكرية.
مع فيروس الكورونا لم تحدث حروب أو تدمير لمؤسسات ومدن وبنية تحتية بشكل مباشر، كما أنّ كل ما أنجزته البشرية من علوم لم تتمكن حتى الآن من مواجهة خطر الفيروس، ولكن جرى ما هو أخطر وهو انهيار الثقة بين الدول وانهيار الثقة بالمؤسسات الدولية وبالعمل الدولي المشترك بل وبالعلم الذي اعتقدت البشرية أنّه قادر على مواجهة كلّ المخاطر التي تهدد البشرية، وأبرز مؤشرات انعدام الثقة استمرار الغموض حول أصل ونشأة الكورونا وتواصل الاتهامات وخصوصاً بين بكين وواشنطن وبروز نظرية المؤامرة بشكل كبير، بالإضافة إلى الخسائر المادّية الناتجة عن الإجراءات التي اتّخذتها الدول لمواجهة الوباء.
يمكن القول ودون تجاهل مفاعيل الكورونا وتداعياته التي خرجت من نطاق الطب والصحّة وعلم الأوبئة لتمس كلّ المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية أنّه لو كان يوجد بالفعل نظام دولي قوي ومتماسك وله قوانين وأُسس واضحة المعالم ومُلزمة للجميع ما كان العالم أُصيب بهذا الرعب والهلع وما حدثت هذه الفوضى وما كان مبرر لطرح السؤال أصلاً. وفي اعتقادي أنّ الفيروس كشف هشاشة النظام الدولي لأنّه جاء في وقت تفاقم أزمات النظام الدولي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية وهو نظام كان يتفكك ويتآكل ويحتاج لتغيير حتى بدون الكورونا.
كثيرة المؤشرات التي تدل على أنّ النظام الدولي كان يمر بأزمة كبيرة قبل الكورونا، منذ انهيار الاتحاد السوفييتي نهاية ثمانينيات القرن الماضي ثمّ الأزمة الاقتصادية عام 2008 إلى مجيء الرئيس ترامب الذي تخلّى عن كلّ التزام أمريكي بأُسس ومرتكزات النظام الدولي كتهميشه وتمرده على الأُمم المتحدة وقرارات الشرعية الدولية وخروجه من الاتفاقات الدولية التي كانت من أهم مرتكزات النظام الدولي كاتفاقية المناخ واتفاقية التجارة الحرة وانتقاداته المتكررة للاتحاد الأوروبي والتدخل الأمريكي العسكري في أكثر من منطقة في العالم، ولم يقف الأمر على الولايات المتحدة بل كان السلوك الاقتصادي والعسكري والسياسي للدول الكبرى الأُخرى، كالصين وروسيا الاتحادية ودول أوروبية، يشكّل تجاوزاً وتعدياً للأُسس التي يقوم عليها النظام العالمي بما تعنيه كلمة نظام، هذا ناهيك عمّا فعلته جماعات سياسية غير مدولنة كتنظيم القاعدة وتنظيم داعش من حروب وخراب ودمار وتغيير في قواعد العمل السياسي وقوانين الحرب لدرجة تفكيك دول وتدفق ملايين المهاجرين، بما يترتب على كلِّ ذلك من زعزعة لقواعد وقوانين كانت تمثّل بنيات أساسية للنظام الدولي كمفهوم السيادة والقوانين المنظِمة للحروب وحقوق الإنسان والحقّ بالحياة والتطهير العرقي، ولا يغيب عن البال بأنّ النظام الاقتصادي العالمي كان شُبه منهار ويعاني من المديونية المرتفعة كما أنّ أزمة النفط كانت سابقة لظهور الكورونا إلخ.
لا نعتقد أنّ الكورونا في المدى القريب سيغير كثيراً في جوهر النظام العالمي، صحيح أنّه وكما أشرنا كان كحجر يُرمى في بركة ماء كانت تبدو صافية، وأنّه سيغير في كثير من المفاهيم والعلاقات وسيؤدِّي لنتائج خطيرة على المستوى الاقتصاد المحلي والعالمي، ولكن في نفس الوقت ستستمر الدول العظمى عظمى مع تغيير في الترتيب والموقع القيادي حيث من المُحتمل أن تبرز الصين كقوّة أُولى اقتصادياً مع شكّ بأنّها ترغب فعلاً في قيادة العالم، كما أنّ الدول الفقيرة ستزداد فقراً، هذا إن لم تدفع الولايات المتحدة العالم نحو حرب عالمية، لأنّ نظامها الاقتصادي الخاضع للنيوليبرالية الجديدة ودولة الرفاهية وبنيتها الاجتماعية الخليط من الأقوام دون انتماء قومي متين يفرض عليها إمّا أن تكون دولة إمبريالية مسيطرة أو لا تكون، ومن غير المؤكّد أنّ الصين مستعدة للدخول في حرب عالمية.
ومن جهة أُخرى فإن كان فيروس الكورونا في المدى القريب سيعزز من حضور ومكانة الدولة الوطنية في مقابل انكشاف ضعف وعدم فعالية الأحزاب وقوى المعارضة والأيديولوجيات الدينية والعلمانية التي وقفت عاجزة مستسلمة لإجراءات النظام السياسي، إلّا أنّ استمرار تفشي الوباء لفترة طويلة دون التوصل للعلاج اللازم للقضاء عليه أو تحجيمه سيؤدِّي إلى ضعف الدولة الوطنية وانتشار النزعات الشعبوية والفوضى وربّما لحروب أهلية قد تجرّ أيضاً لحرب عالمية.
أمّا بالنسبة للعرب فإنّ أُمورهم لا تبشر بالخير. كان العرب خارج المعادلة التي أسست النظام الدولي بعد الحرب العالمية الأُولى بل تأسس النظام على حسابهم ومصالحهم، وعد بلفور وسايكس بيكو، وكانوا خارج التأثير عند تأسيس النظام الدولي بعد الحرب الثانية ولم يستفيدوا من الثنائية القطبية حيث كان المعسكر الاشتراكي يساند دول الجنوب وحركات التحرر العالمية، ولا يبدو أنّه سيكون لهم دوراً في تشكيل النظام الدولي الجديد الذي يجري الحديث عنه حيث ما زالت الحرب مندلعة في اليمن وسوريا وليبيا، وما زال النظام الإقليمي العربي منقسماً على ذاته، وما زالت فلسطين تحت الاحتلال والانقسام الفلسطيني الداخلي يتعزز.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق